بقلم محمد الساسي .
بعد إعلان الملك عن نيته في تنظيم مراجعة دستورية وتكليف لجنة بإعداد مشروع هذه المراجعة، قدمت الأحزاب السياسية مذكرات إلى اللجنة، عرضت من خلالها مقترحاتها المفصلة بخصوص المراجعة الدستورية المرتقبة. ورغم أن بعض الأحزاب والحساسيات امتنعت عن المثول أمام اللجنة التي عينها الملك أو موافاتها بمذكرات مكتوبة، فإن ذلك لم يمنع هذه الأحزاب والحساسيات من المشاركة في النقاش العام وطرح أفكارها في الساحة بخصوص المسألة الدستورية، بجانب بقية الأحزاب والنقابات والجمعيات والتيارات الأخرى التي فضلت التعامل مع اللجنة المكلفة بإعداد مشروع المراجعة الدستورية. وهكذا، نجد أنفسنا لأول مرة، وقبل إعلان موعد الحملة الخاصة بالاستفتاء، أمام مادة دسمة وإنتاج غزير يهم القضية الدستورية ويفصل المطالب والمقترحات ويحدد الرؤى والمنطلقات.
وأصبحنا نعاين، إذن، تشكل أربعة مواقف كبرى توزعت عبرها الأحزاب والتيارات الموجودة داخل المجتمع المغربي اليوم:
الموقف الأول ينطلق من عدم صلاحية نظام الملكية البرلمانية وعدم ملاءمته للحال المغربي، مادام لم يرد ذكر هذا النظام في الخطاب الملكي لـ 9 مارس 2011.
التنظيمات التي تتبنى هذا الموقف هي نفس التنظيمات التي كانت تقدر، قبل الخطاب الملكي المذكور آنفا، أن المغرب في الأصل ليس في حاجة إلى تعديل دستوري أو أن هذه الحاجة إن وُجدت فهي لا تكتسي أي طابع استعجالي أو حيوي. ولهذا، فإن تلك التنظيمات لم تطالب بالإصلاح الدستوري من قبل، ولا ترى أن في المغرب "مشكلة دستورية"، كل ما نحتاجه اليوم هو تحسين الحكامة التقنية وتفعيل فصول الدستور التي لم تُفَعَّل، والاعتماد على نخب تملك ناصية الخبرة وتتميز بالواقعية والتبصر، وتجاوز النخب التي ألفت ركوب موجة المزايدات السياسوية وتنكرت لدورها الحقيقي في حل مشاكل الشعب على الأرض والانكباب على العمل الجدي ومواكبة الأوراش الملكية.
هناك، حسب هذا الموقف الأول، خصوصية مغربية جعلت الملكية تاريخيا في قلب القضايا الحقيقية للبلاد، وفي موقع المستمع والمتتبع والمواكب لتحولات ومطالب الشعب وحاجاته الملحة. وهناك قناعة راسخة لدى المغاربة أن المؤسسة الملكية، بحكم مركزها المعنوي وعمقها الديني والتاريخي، تمثل ضمانة للحفاظ على اللحمة الوطنية ولعدم السقوط في الممارسات المتحيزة لمجموعة عائلية أو حزبية. فضلا عن أن الانتماء إلى الإسلام يفرض وجوبا قبول تحديد أمير المؤمنين لمصير الأمة وتدبيره لشؤونها ويتعين مؤازرته وتسهيل مأموريته ومده بالعون والمشورة والنصيحة كلما طلب ذلك.
وحسب هذا الموقف الأول، فإن خطاب الإصلاح الدستوري يمثل نوعا من الترف الزائد والانشغال الفقهي العقيم، لأن هذا الإصلاح لن يطعم جائعا ولن يأوي متشردا ولن يشفي عليلا ولن يشغل عاطلا ولن يجلب الماء والكهرباء والطريق والمدرسة لسكان المناطق النائية والفقيرة، وأن عددا من منتجي ذلك الخطاب تحركهم بواعث مشبوهة ويستهدفون أمن واستقرار المملكة وشكل النظام.
ولكن، بعد خطاب 9 مارس، اعتبرت التنظيمات التي تتبنى الموقف الأول أن الخطاب الملكي يمثل سقفا لا يمكن تجاوزه، وأنه ذهب أبعد مما تقتضيه ضرورات الإصلاح. ولهذا، ركزت "اجتهادات" تلك التنظيمات على ضرورة الاحتفاظ للملكية بدور محوري في الحياة المؤسسية وتحسين أداء المؤسسات الأخرى واعتبار الفصل 19 إطارا ملائما على العموم لرسم وتحديد مركز الملكية واعتماد رئاسة الملك للمجلس الوزاري ثابتا من الثوابت.
وفي هذا الإطار، يُلاحظ مثلا أن الحركة الشعبية لم تفرد في مذكرتها أية فقرة لمقاربة وضع الملك، بينما المشكل الأساسي في المغرب – من زاوية المقارنة مع الآليات الكونية للديمقراطية – هو تحديد مجال تدخل الملك بما لا يجعله متعارضا مع مبدأ السيادة الشعبية، وتأمين الخروج بالتالي من حلقة الحكم شبه المطلق. كل ما قدمته الحركة الشعبية في معالجة الإشكالات الرئيسية هو اقتراح تحويل "بعض" اختصاصات المجلس الوزاري إلى المجلس الحكومي، لكنها لم تحدد مناط هذا "البعض"، بينما هذا التحديد هو مربط الفرس.
أما الاتحاد الدستوري، فقد أكد من جانبه أن سقف الإصلاحات الذي حدده الملك في خطاب 9 مارس يعد "مكسبا كبيرا للمغرب وخطوة غير مسبوقة على امتداد تاريخ الدولة المغربية في مجال بناء مجتمع الحرية والديمقراطية والكرامة...". ونبه الحزب إلى أن سمو المعاهدات والمواثيق الدولية يجب ألا يتعارض مع "الثوابت التي أجمعت عليها الأمة والمصالح العليا للبلاد"، بينما الذين نادوا بإعمال سمو المواثيق المذكورة، إنما فعلوا ذلك في محاولة لكي لا تتعرض حقوقهم الفردية والجماعية للإهدار باسم "الثوابت"، بما في ذلك حق الشعب في السيادة وممارستها بواسطة ممثلين منتخبين. وواصل الاتحاد الدستوري التعبير عن مقترحاته وأفكاره من داخل الالتزام بالإطار العام الذي يحدده الفصل 19 للحياة السياسية المغربية، كما جرت بذلك الممارسة وأكده التأويل التقليدي لهذا الفصل.
وذهب التجمع الوطني للأحرار نفس المذهب، مرددا في مذكرته نص الفصل 19 كما جاء في الدستور الحالي بنفس العبارات تقريبا مع إشارة إلى أن الملك "يمارس السلطات المخولة له بحكم الدستور". هذه الجملة غامضة، ولا تبدد اللبس، إذ المطلوب هو "ألا" يمارس الملك "سوى" السلطات المخولة له بحكم الدستور، أي السلطات المخولة له بحكم الفصول الأخرى من الدستور، وليس السلطات التي تفيض عن التأويل الواسع للفصل 19 أو تفيض عن "عقد" خارج الدستور (البيعة). كما أن حزب التجمع لم يفته التأكيد ضمنا على أن قاعدة ترؤس الملك للمجلس الوزاري لا يجب أن يرد بشأنها أي استثناء.
ومع ذلك، فإن مذكرات الأحزاب المذكورة لم تعدم الإشارة أحيانا إلى تجديدات تقنية ذات فائدة.
الموقف الثاني ينطلق من الاقتناع بجدوى نظام الملكية البرلمانية، ولكنه يقدر أن أوانها لم يحن بعد، أي أنه يعتمد هذا النظام كأفق، تأسيسا على أننا لا يمكن أن ننتقل بين عشية وضحاها من نظام تقليدي بملكية سائدة وحاكمة وتمسك خيوط كل شيء له علاقة بإدارة شؤون الدولة إلى ملكية لا تمسك بأي خيط من ذلك. الملكية البرلمانية هي الشكل الوحيد للتوفيق بين الطابع الملكي الوراثي وقواعد الديمقراطية، ولكنها تتطلب مرحلة انتقالية وسطى، بدستور "انتقالي" يؤطر هذه المرحلة ويقوم على نوع من الشراكة في القرار وتقاسم السلطة بين حقلين: حقل متأت من صناديق الاقتراع (البرلمان والحكومة) وحقل متأت من التاريخ والتقاليد وطبيعة الميراث الديني (الملكية)، على أساس أن الثقة والتعاون والإرادة المشتركة للارتقاء بالتجربة الديمقراطية ستمهد السبيل بسلاسة وتدرج لبزوغ فجر الملكية البرلمانية. أي أننا عمليا هنا نعود إلى نفس المستندات التي بُني عليها خطاب تسويغ التناوب الذي أنتجه جزء من اليسار، مع فارق هو أن المرحلة "الوسطى" كانت تبدو ممكنة الحلول والأزوف بدون حاجة إلى إصلاح دستوري بل بقراءة "متقدمة" للدستور القائم، وتبدو اليوم مرتبطة في وجودها بالإصلاح الدستوري.
هذا فضلا عن وجود بعض الذين يرافعون لفائدة ملكية برلمانية مغربية ليس من المفروض أن تنضبط كليا للمعايير المعروفة والمستخلصة من التجربة العالمية.
يمكن في نظرنا أن نتوصل بسهولة إلى وضع مذكرة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ضمن خانة الموقف الثاني. وهي لا تخفي هذا التموقع من خلال تأكيدها الصريح مثلا على أن هدف الحزب من طبيعة المقترحات التي تقدم بها "ليس الوصول إلى دستور مثالي، ولكن فتح صفحة جديدة في حياتنا السياسية تعيد المصداقية للمؤسسات، والاعتبار للعمل السياسي، وتعيد بناء جسور الثقة بين المواطنين والمؤسسات...).
المذكرة الاتحادية مادامت تعتبر أن الملك "يمارس مهام التوجيه العام والتحكيم"، فهي تنطلق بالتالي من أن "التوجيه العام" لا ينبع بالضرورة من صناديق الاقتراع. فإذا كان التوجيه "العام" الذي يقدمه الملك مخالفا لقناعات النساء والرجال الذين حملتهم الانتخابات إلى سدة المؤسسات، لمن ستكون الكلمة الفصل؟ أليس المطلوب اليوم بالضبط هو التخلص من هذه التعابير العامة التي تتيح للملكية سلطة تقديرية واسعة في تقدير سلطتها؟!
ومادامت المذكرة الاتحادية، من جهة ثانية، تُبقي على نفس صلاحيات المجلس الوزاري، ولكن مع إمكان أن يفوض الملك لرئيس الحكومة حق ترؤسه بجدول أعمال محدد، فإنها تقدر ضرورة احتفاظ الملك في المرحلة المقبلة بسلطات واسعة، وتعمل على توسيع صلاحيات المؤسسات الأخرى، و"إعادة ضبط" الفصل التاسع عشر حتى لا يُستعمل كأساس لممارسة سلطة مطلقة للحكم، لتكون النتيجة النهائية هي السعي لإقامة نوع من تقاسم السلطة بين الملك والمنتخبين مع استمرار رجحان كفة السلطة الملكية في انتظار الملكية البرلمانية التي ستُوَثَّقُ الأحكام الضامنة لها في دستور ما بعد الدستور الذي يجري إعداده اليوم. للإشارة، فإن الاتحاد الاشتراكي أعلن التزامه بالنضال من أجل الملكية البرلمانية منذ مؤتمره الثالث في 1978 وعاد لتأكيده في مؤتمره الثامن عام 2008.
حزب التقدم والاشتراكية أيضا يتبنى نفس التوجه. فرغم كون مذكرته تدعو إلى إدراج الملكية البرلمانية ضمن ثوابت الأمة، فإنه يعني بهذا الإدراج اعتبارها هدفا مستقبليا يتعين الوصول إليه عبر أكثر من مراجعة دستورية واحدة. وهذا هو المعنى الذي يُستفاد صراحة من صياغة الفقرة الواردة في مذكرة الحزب والتي جاء فيها: "المغرب دولة ديمقراطية موحدة وذات سيادة يندرج نظامها السياسي في أفق ملكية برلمانية". هذا، وتؤكد المذكرة كذلك على اضطلاع الملك بمهام التوجيه والتحكيم، وعلى إمكان ترؤس مجلس الوزراء من طرف الوزير الأول بتفويض من الملك، وعلى أن حق مجلس الحكومة في تحديد السياسة العامة للدولة متوقف على مصادقة مجلس الوزراء على تلك السياسة.
الموقف الثالث ينطلق من ضرورة إقرار الملكية البرلمانية الآن. ومعنى ذلك إصدار دستور يضع السلطة بيد المنتخبين ويحصر الدور الأساسي للملكية في تمكين هؤلاء المنتخبين من ممارسة سلطتهم، مع إشراف رمزي على أداء الشعائر الدينية للمغاربة المسلمين، وتمثيل أعلى من الناحية البروتوكولية للدولة في المحافل الخارجية بموافقة الحكومة، ومساهمة في التحكيم من خلال تعيين نسبة من أعضاء المجلس الدستوري وأعضاء المجلس الأعلى للإعلام السمعي البصري، ومشاركة في إعلان بعض القرارات التي تهم الظروف غير العادية في السير المؤسسي. والحكومة تكون مسؤولة أمام البرلمان، ولا يتدخل الملك في تحديد طبيعة برنامجها بمختلف مناحيه السياسية الداخلية والخارجية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية والدفاعية، ويلتزم الملك باحترام ما يصدر عن البرلمان والحكومة من قرارات، وتخول صلاحيات مجلس الوزراء الحالي الأساسية إلى مجلس الحكومة، ويحتفظ مجلس الوزراء بدور ثانوي وطارئ ورئاسة شرفية للملك، ولا يمكن لهذا الأخير أن يستعمل لقبا من الألقاب لممارسة صلاحية غير منصوص عليها صراحة في الدستور والقوانين المتفرعة عن أحكامه.
هذا الموقف الثالث تتبناه أحزاب تحالف اليسار الديمقراطي (الطليعة والمؤتمر والاشتراكي الموحد).
الموقف الرابع ينطلق من أن "الحل" ليس في رفع شعار دستور الملكية البرلمانية. ويمثل هذا الموقف كل من حركة النهج الديمقراطي وجماعة العدل والإحسان. أنصار الموقف الرابع يعتبرون أنهم غير معنيين بتقديم "تفاصيل"، لأن ذلك في حد ذاته يشكل سقوطا في اللعبة. هم لا يتجاوزون خط التأكيد على أن هدفهم الأساسي هو تحقيق مبدأ أن الشعب صاحب السيادة والسلطة الوحيد، وعلى أن الدستور يجب أن يُوضع من طرف جمعية تأسيسية، وهذا يكفي.
صحيح أن النهج الديمقراطي يقدم في بضعة أسطر مقاربته الدستورية مقتصرا فيها على تأكيد سمو المواثيق الدولية وتوسيع الحقوق وعلمانية الدولة واعتماد البرلمان كسلطة تشريعية وحيدة والحكومة كمصدر وحيد لتحديد وإدارة سياسة البلاد وانبثاق الوزير الأول من الأغلبية ورئاسته لمجلس الوزراء وسلطته في تعيين العمال والولاة. وصحيح أن قادة العدل والإحسان يصرحون بأنهم يتبعون القاعدة التي خلفها النبي (صلعم) والتي تقوم على أن الأمة تختار حاكمها ويشمل ذلك رأس الدولة، وأن النظام السياسي يجب أن يُبنى على الحكم بالعدل والاستقرار على الشورى والاحتكام إلى الشرع وخدمة السلطان للأمة؛ وأن الخلافة تعني وحدة الأمة بجميع أقطارها بعيدا عن التجزئة الاستعمارية التي حولتها إلى دويلات قفصية (الكلام لفتح الله أرسلان). ولكن التنظيمين المذكورين معا لا يقدمان أية إشارة إلى شكل النظام ودور الملك ووظائفه، ولا يحددان موقفا صريحا من الملكية ولا يتناولان علاقات السلط والمؤسسات بعضها ببعض. إنهم يؤجلون كل ذلك إلى ما بعد!